فصل: من فوائد ابن كثير في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عطية: أي إن تركت شيئًا فكأنك قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتد به.
فمعنى: وإن لم تفعل، وإن لم تستوف.
ونحو هذا قول الشاعر:
سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا ** فسيان لا ذمّ عليك ولا حمد

أي إن لم تعط ما يعد نائلًا وألا تتكاذب البيت.
وقال أبو عبد الله الرازي: أجاب الجمهور بأنْ لم تبلغ واحدًا منها كنت كمن لم يبلغ شيئًا.
وهذا ضعيف، لأنّ من أتى بالبعض وترك البعض.
فإن قيل: إنه ترك الكل كان كاذبًا، ولو قيل: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل، فهذا هو المحلل الممتنع، فسقط هذا الجواب انتهى.
وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به، لأنه قال: فإنْ قيل أنه ترك الكل كان كاذبًا، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا: إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداها جميعًا.
كما أنّ من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها، وكونها لذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغًا غير مبلغ مؤمنًا به غير مؤمن، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به، وأما ما ذكر من أنّ مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع، فلا استحالة فيه.
ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم، ويؤاخذ بالذنب الحقير: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية، رتب على من أخذ شيئًا بالاختفاء والتستر، قطع اليد مع ردّ ما أخذه أو قيمته، ورتب على من أخذ شيئًا بالقهر والغلبة والغصب ردّ ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون قطع اليد.
وقال أبو عبد الله الرازي: والأصح عندي أن يقال: إن هذا خرج على قانون قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، ومعناه: أن شعرى بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه إنه شعرى فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا هاهنا.
قال: فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، يعني: أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم، فكان ذلك تنبيهًا على التهديد والوعيد.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر: رسالاته على الجمع.
وقرأ باقي السبعة: على التوحيد.
{والله يعصمك من الناس} أي لا تبال في التبليغ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة، ولا باغتيال، ولا باسيتلاء عليك بأخذ وأسر.
قال محمد بن كعب: نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله انتهى، وهو غورث بن الحرث، وذلك في غزوة ذات الرقاع.
وروى المفسرون أنّ أبا طالب كان يرسل رجالًا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله: والله يعصمك من الناس، فقال: إن الله قد عصمني من الجن والإنس، فلا أحتاج إلى من يحرسني.
وقال ابن جريج: كان يهاب قريشًا فلما نزلت استلقى وقال: «من شاء فليخذلني مرتين أو ثلاثًا».
وروى أبو أمامة حديث ركانة من: ولد هاشم مشركًا أفتك الناس وأشدهم، تصارع هو والرسول، فصرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ودعاه إلى الإسلام، فسأله آية، فدعا الشجرة فأقبلت إليه.
وقد انشقت نصفين، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة، فسارا نحوه واجتمعا به، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة، فأخبرهما خبره معه وضحك، وقرأ والله يعصمك من الناس.
وهذا ما قبله يدل على أنّ ذلك نزل بمكة أو في ذات الرقاع، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول بها مقيم شهرًا، وحرسه سعد وحذيفة، فنام حتى غط، فنزلت، فأخرج إليهما رأسه من قبة أدم وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني» وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم: وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل: الآية نزلت بعد أحد، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله، وابتلاء الأنبياء أشد، وما أعظم تكليفهم.
وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار، والناس عام يراد به الكفار يدل عليه ما بعده.
وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصدًا لا عداء له مغالبة واغتيالًا.
وفيه دليل على صحة نبوّته، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى، وكذا جميع ما أخبر به.
{إن الله لا يهدي القوم الكافرين} أي إنما عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبدًا، فيكون خاصًا.
قال ابن عطية: وأما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره.
وقال الزمخشري: ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله، بل من الهلاك انتهى.
وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك.
وقيل: المعنى لا يهديهم إلى الجنة.
والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولًا. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}.
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وقام به أتمّ القيام.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنزل عليه فقد كذب، الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية.
هكذا رواه هاهنا مختصرًا، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا. وكذا رواه مسلم في «كتاب الإيمان»، والترمذي والنسائي في «كتاب التفسير» من سننهما من طرق، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها.
وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس. فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء.
وهذا إسناد جيد، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفَكَاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من الصحابه نحو من أربعين ألفًا كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها إليهم ويقول: «اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بلغت».
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمير، حدثنا فضيل- يعني ابن غَزْوان- عن عِكْرمَة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «يأيها الناس، أيّ يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام. قال: «أيّ بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام. قال: «فأيّ شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام. قال: «فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا». ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال: «اللهم هل بلغت!» مرارًا- قال: يقول ابن عباس: والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل- ثم قال: «ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض».
وقد روى البخاري عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان، به نحوه.
وقوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني: وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني: إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال: «يا رب، كيف أصنع وأنا وحدي؟ يجتمعون عليَّ». فنزلت {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
ورواه ابن جرير، من طريق سفيان- وهو الثوري- به.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي: بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَس كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا يحيى، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث: أن عائشة كانت تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة، وهي إلى جنبه، قالت: فقلتُ: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: «ليت رجلا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة؟» قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: «من هذا؟» فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: «ما جاء بك؟» قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه. أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، به.
وفي لفظ: سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة. يعني: على أثر هجرته إليها بعد دخوله بعائشة، رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل مصر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عُبَيد- يعني أبا قدامة- عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة، وقال: «يأيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل».